الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***
95. وَسَمِّ مَرْفُوْعاً مُضَافاً لِلنَّبِيْ *** وَاشتَرَطَ (الخَطِيْبُ) رَفْعَ الصَّاحِبِ 96. وَمَنْ يُقَابِلْهُ بِذي الإرْسَالِ *** فَقَدْ عَنَى بِذَاكَ ذَا اتِّصَالِ اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرفوعِ، فالمشهورُ أنَّهُ: ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً له، أو فعلاً سواءٌ أضافَهُ إليه صحابيٌّ أو تابعيٌّ، أو مَنْ بعدَهما، سواءٌ اتّصلَ إسنادُهُ أم لا. فعلى هذا يدخلُ فيه المتصلُ والمرسلُ والمنقطعُ والمعضلُ. وقال الخطيبُ: هو ما أخبرَ فيه الصحابيُّ عن قولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، أو فعلِهِ. فعلى هذا لا تدخلُ فيه مراسيلُ التابعينَ ومَنْ بعدَهُم. قال ابنُ الصلاحِ: «ومَنْ جَعَلَ من أهلِ الحديثِ المرفوعَ في مُقَابَلَةِ المُرْسَلِ، فقد عَنَى بالمرفوعِ المتصلَ».
97. وَالمُسْنَدُ المَرْفُوْعُ أوْ مَا قَدْ وُصِلْ *** لَوْ مَعَ وَقْفٍ وَهوَ في هَذَا يَقِلْ 98. وَالثالِثُ الرَّفْعُ مَعَ الوَصْلِ مَعَا *** شَرْطٌ بِهِ (الحَاكِمُ) فِيهِ قَطَعَا أُخْتُلِفَ في حَدِّ الحديثِ المسنَدِ على ثلاثةِ أقوالٍ: فقالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ في " التمهيد ": هو ما رُفع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً- قال-: وقد يكونُ متّصلاً مثلُ: مالكٍ، عن نافعِ، عن ابنِ عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقد يكونُ منقطعاً، مثلُ: مالكٍ، عن الزهريِّ، عن ابنِ عبّاسٍ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال: فهذا مسندٌ؛ لأنَّهُ قَدْ أُسندَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو منقطعٌ، لأنَّ الزهريَّ لم يَسْمَعْ من ابنِ عبّاسٍ. انتهى. فعلى هذا يستوي المسندُ والمرفوعُ. وقالَ الخطيبُ: هو عندَ أهلِ الحديثِ: الذي اتّصلَ إسنادُهُ من راويهِ إلى منتهاهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وأكثرُ ما يستعملُ ذلك فيما جاءَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دونَ ما جاءَ عن الصحابةِ وغيرهم.وكذا قال ابنُ الصَّبَّاغِ في"العُدَّة" المسندُ: ما اتصلَ إسنادُهُ. فعلى هذا يَدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ. ومقتضى كلامِ الخطيبِ أنَّهُ يدخلُ فيه ما اتصلَ إسنادهُ إلى قائِلِهِ مَنْ كان، فيدخلُ فيه المقطوعُ، وهو قولُ التابعيِّ، وكذا قولُ مَنْ بعدَ التابعينَ، وكلامُ أهلِ الحديثِ يأباهُ. وقولُهُ: أو، هي لتنويعِ الخلافِ، يدلُّ عليه قولُهُ بَعدُ: (والثالثُ)، وهو أنَّ المسندَ لا يقعُ إلا على ما رُفِعَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ متصلٍ، وبه جزمَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسابوريُّ في " علومِ الحديثِ "، وحكاهُ ابنُ عبدِ البرِّ قولاً لبعضِ أهل الحديثِ.
99. وَإنْ تَصِلْ بِسَنَدٍ مَنْقُوْلاَ *** فَسَمِّهِ مُتَّصِلاً مَوْصُوْلا 100. سَوَاءٌ المَوْقُوْفُ وَالمَرْفُوْعُ *** وَلَمْ يَرَوْا أنْ يَدْخُلَ المَقْطُوْعُ المتّصلُ والموصولُ: هو ما اتّصلَ إسنادُهُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو إلى واحدٍ مِنَ الصحابةِ حيثُ كان ذلكَ موقوفاً عليهِ. وأما أقوالُ التابعينَ إذا اتصلتِ الأسانيدُ إليهم، فلا يسمّونها متصلةً. وهذا معنى قولِهِ: (ولمْ يَرَوْا أنْ يدخُلَ المقطوعُ)، وإنِ اتصلَ السندُ إلى قائلِهِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ومطلقُهُ، أي: المتصلِ، يقعُ على المرفوعِ والموقوفِ. قلتُ: وإنّما يَمتنعُ اسمُ المتصلِ في المقطوعِ في حالةِ الإطلاقِ. أما مع التقييدِ فجائزٌ واقعٌ في كلامِهِم، كقولِهِم: هذا متصلٌ إلى سعيدِ بنِ المسيِّبِ، أو إلى الزهريِّ، أو إلى مالكٍ ونحو ذلك.
101. وَسَمّ بالمَوْقُوْفِ مَا قَصَرْتَهُ *** بِصَاحِبٍ وَصَلْتَ أوْ قَطَعْتَهُ 102. وَبَعضُ أهْلِ الفِقْهِ سَمَّاهُ الأثَرْ *** وَإنْ تَقِفْ بِغَيرِهِ قَيِّدْ تَبَرّْ أي: والموقوفُ ما قصرْتَهُ بواحدٍ من الصحابةِ قولاً له، أو فعلاً، أو نحوَهُما. ولم تتجاوز به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم سواءٌ اتصلَ إسنادهُ إليه، أولم يتصلْ. وقال أبو القاسمِ الفُوْرانيُّ من الخُراسانيينَ: «الفُقهاءُ يقولون: الأثرُ ما يُروى عن الصَّحابةِ». وقولُهُ: (وإن تَقِفْ بغيره قيّدْ تبرِ)، أي: وإنِ استعملتَ الموقوفَ فيما جاءَ عن التابعينَ فمَنْ بعدَهُم، فقيِّدْهُ بهم. فَقُلْ: موقوفٌ على عطاءٍ، أو على طاوُسٍ، أو وقفهُ فلانٌ على مجاهدٍ، ونحوَ ذلكَ. وفي كلامِ ابنِ الصلاحِ أنَّ التقييدَ لا يتقيدُ بالتابعيِّ، فإنَّهُ قال: وقد يستعملُ مقيّداً في غير الصحابيِّ. فعلى هذا يُقالُ موقوفٌ على مالكٍ، على الثوريِّ، على الأوزاعيِّ، على الشافعيِّ، ونحو ذلك.
103. وَسَمِّ بِالمَقْطُوْعِ قَوْلَ التَّابِعي *** وَفِعْلَهُ، وَقَدْ رَأى (للشَّافِعِي) 104. تَعْبِيرَهُ بِهِ عَنِ المُنقطِعِ *** قُلْتُ: وَعَكسُهُ اصطِلاحُ (البَردَعِي) قَالَ الخَطيبُ في كتابِ " الجامعِ بين آدابِ الراوي والسامعِ ": من الحديثِ: المقطوعُ.- وقال أيضاً-: المقاطعُ، هي الموقوفاتُ على التابعينَ. قال ابنُ الصلاحِ: ويقالُ في جمعِهِ المقاطيعُ، والمقاطعُ. وقولُهُ: (وقد رَأى) أي: ابنُ الصلاحِ، فقالَ: وقد وجَدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عن المنقطعِ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ، وغيرِهما. انتهى. ووجدْتُهُ أيضاً في كلامِ أبي بكرٍ الحميديِّ، وأبي الحَسَنِ الدارقطنيِّ. وقولُهُ: (وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي)، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ. قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح. وأتيتُ هنا بـ (قلتُ): لأنَّ تعيينَ القائلِ لها من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وإن كانت المسألةُ في مَوضِعٍ آخرَ من كتابِهِ غيرَ معزوةٍ إلى قائِلِها.
105. قَوْلُ الصَّحَابيِّ (مِنَ السُّنَّةِ) أوْ *** نَحْوُ (أُمِرْنَا) حُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَلَوْ 106. بَعدَ النَّبِيِّ قالَهُ بِأَعْصُرِ *** عَلى الصَّحِيْحِ، وَهْوَ قَوْلُ الأكْثَرِ قولُ الصحابيِّ: «من السنةِ كذا»، كقولِ عليٍّ رضي الله عنه: «من السُّنَّةِ وَضْعُ الكفِّ على الكفِّ في الصلاةِ، تحتَ السُّرَّةِ». رواهُ أبو داودَ في روايةِ ابنِ داسةَ، وابنِ الاعرابيِّ. قالَ ابنُ الصَلاحِ: فالأصحُّ أنَّهُ مسندٌ مرفوعٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنّهُ لا يريدُ بهِ إلا سُنَّةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يجبُ اتباعُهُ. قالَ ابنُ الصَّبَّاغ في " العُدَّة ": وحُكِيَ عن أبي بكرٍ الصَّيْرفيِّ، وأبي الحَسَنِ الكَرْخيِّ وغيرهِما أنّهم قالوا: يحتملُ أنْ يُريدَ به سنةَ غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلا يحملُ على سنتهِ. انتهى.
كقولِ أُمِّ عَطيّةَ: أمِرنا أن نُخِرجَ في العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ، وذَوَاتِ الخُدُورِ، وأُمِرَ الحُيَّضُ أنْ يعتزِلْنَ مُصَلَّى المُسلِمِينَ. وكقولها أيضاً: نُهِينا عن اتِّباعِ الجنائزِ، ولم يُعْزَمْ علينا وكلاهما في الصحيح، هو من نوعِ المرفوعِ والمسندِ عند أصحابِ الحديثِ، وهو الصحيحُ، وقولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، قاله ابنُ الصلاح. قال: لأنَّ مطلقَ ذلك ينصرفُ بظاهرِهِ إلى من إليهِ الأمرُ والنهي وهو رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم.- قال-: وخالفَ في ذلك فريقٌ، منهم: أبو بكرٍ الإسماعيليُّ. قلتُ: وجزَم بهِ أبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ في " الدلائل ". قال ابنُ الصلاحِ: وكذلك قولُ أنسٍ: أُمِرَ بلالٌ أنْ يَشْفعَ الأَذانَ ويُوترَ الإقامةَ. قال: ولا فَرْقَ بينَ أنْ يقولَ ذلك في زمنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بعدَهُ. انتهى. أما إذا صَرَّحَ الصحابيُّ بالآمر، كقوله: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلمُ فيه خلافاً، إلا ما حكاهُ ابنُ الصَّبَّاغِ في " العُدَّة " عن داودَ وبعضِ المتكلّمينَ أنّهُ لا يكونُ ذلك حُجَّةً، حتى يُنقلَ لنا لفظُهُ. وهذا ضعيفٌ مردودٌ، إلا أنْ يريدوا بكونِهِ لا يكونُ حجةً، أي في الوجوب. ويدلُّ على ذلك تعليلُهُ للقائلينَ بذلكَ، بأنَّ مِنَ الناسِ مَنْ يقولُ: المندوبُ مأمورٌ به. ومنهم مَنْ يقولُ: المباحُ مأمورٌ به أيضاً. وإذا كانَ ذلكَ مرادَهم، كان له وجهٌ، والله أعلم. 107. وَقَوْلُهُ (كُنَّا نَرَى) إنْ كانَ مَعْ *** عَصْرِ النَّبِيِّ مِنْ قَبِيْلِ مَا رَفَعْ 108. وَقِيْلَ: لا، أوْ لا فَلا، كَذاكَ لَه *** و (لِلخَطِيْبِ) قُلْتُ: لكِنْ جَعَلَهْ 109. مَرفُوعاً (الحَاكِمُ) و (الرَّازِيُّ *** إبنُ الخَطِيْبِ)، وَهُوَ القَوِيُّ
إنْ كان مع تَقْييدِهِ بعصر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كقولِ جابرٍ: «كُنَّا نعزِلُ على عَهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم» متفقٌ عليه. وكقولِهِ: «كُنَّا نأكلُ لحمَ الخيلِ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم» رواهُ النسائيُّ، وابنُ ماجه. فالذي قَطَعَ به الحاكمُ وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ وغيرهم، أنَّ ذلك من قبيلِ المرفوعِ. وصَحَّحَهُ الأصوليون: الإمامُ فخرُ الدين، والسيفُ الآمديُّ وأتباعهما. قالَ ابنُ الصلاحِ: وهو الذي عليه الاعتمادُ؛ لأنَّ ظاهرَ ذَلِكَ مشعرٌ بأنَّ رَسُوْل اللهِ صلى الله عليه وسلم اطّلعَ عَلَى ذلكَ وقرَّرَهُم عَلَيْهِ. وتقريرُهُ أحدُ وُجوهِ السُّنن المرفوعةِ، فإنَّها أقوالُهُ، وأفعالُهُ، وتَقرِيرُهُ، وسكوتُهُ عن الإنكارِ بَعْدَ اطلاعِهِ.- قَالَ-: وبلغني عن البَرْقانيِّ أنهُ سألَ الإسماعيليَّ عن ذلكَ فأنكَرَ كونَهُ من المرفوعِ. قُلْتُ: أمَّا إذا كانَ في القِصَّةِ اطلاعُهُ فحكمُهُ الرفعُ اجماعاً، كقولِ ابنِ عمرَ: «كُنَّا نقولُ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيٌّ: أفضلُ هَذِهِ الأمةِ بَعْدَ نَبيِّها، أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ، ويسمَعُ ذَلِكَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم فَلاَ يُنكرُهُ» رواهُ الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ. والحديثُ في الصحيحِ لكنْ لَيْسَ فِيْهِ اطّلاعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ بالتصريح. وقولُهُ: (أو لا فَلاَ) أي: وإنْ لَمْ يكنْ مقيّداً بعصرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فليس مِنْ قَبِيْلِ المرفوعِ. وقولُهُ: (كذاك لَهُ) أي: هذا لابنِ الصلاحِ تَبَعاً للخطيبِ فجزما بأنَّه من قبيلِ الموقوفِ. وقولُهُ: (قُلتُ): إلى آخر البيتِ الثالثِ من هذهِ الأبياتِ، هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهو أنَّ الحاكمَ، والإمامَ فخرَ الدين الرازيَّ جَعلاهُ من قبيلِ المرفوعِ، ولولم يقيِّدْهُ بعهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّةِ" إنَّهُ الظاهرُ، ومَثَّلَهُ بقولِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها: «كانتِ اليدُ لا تُقْطعُ في الشيء التافِهِ». ومقتضى كلامِ البيضاويِّ موافقٌ لما قالَهُ ابنُ الصلاحِ، ولكنَّ الإمامَ، والسيفَ الآمديَّ لم يُقييدا ذلك بعهدِهِ صلى الله عليه وسلم. وقال به أيضاً كثيرٌ من الفقهاءِ، كما قالَهُ النوويُّ في " شرح المُهَذَّبِ "، قال: وهو قويٌّ من حيثُ المعنى. 110. لكنْ حَدِيْثُ (كانَ بَابُ المُصْطَفَى *** يُقْرَعُ بالأَظْفَارِ) مِمَّا وُقِفَا 111. حُكْماً لَدَى (الحَاكِمِ) و (الخَطِيْبِ) *** وَالرَّفْعُ عِنْدَ الشَّيخِ ذُوْ تَصْوِيْبِ أي: لكنَّ هذا الحديثَ حكمُهُ حكمُ الموقوفِ عندَ الحاكمِ والخطيبِ، وإنْ كان الحاكمُ قد تقدّمَ عنه ما يقتضي في نظيرِهِ أنَّهُ مرفوعٌ. وهذا الحديثُ رواهُ المغيرةُ ابنُ شعبةَ، قال: كان أصحابُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقرعونَ بابَهُ بالأظافيرِ. قالَ الحاكمُ: هذا يتوهمُهُ مَنْ ليس من أهلِ الصنعةِ مسنداً لذكرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيه،- قال-: وليس بمسنَدٍ بل هو موقوفٌ. وذكرَ الخطيبُ في " الجامع " نحوَ ذلك أيضاً. قال ابنُ الصلاحِ: بل هو مرفوعٌ كما سبق ذِكْرُهُ، وهو بأنْ يكونَ مرفوعاً أحرى؛ لكونِهِ أحرَى باطلاعِهِ صلى الله عليه وسلم عليه. قالَ: والحاكمُ معترفٌ بكونِ ذلك من قبيلِ المرفوعِ، وقد كُنَّا عددْنَا هذه فيما أخذناه عليهِ ثم تأولناهُ له على أنَّهُ أراد أنَّهُ ليس بمسنَدٍ لفظاً، وإنَّما جعلْنَاهُ مرفوعاً من حيثُ المعنى.
112. وَعَدُّ مَا فَسَّرَهُ الصَّحَابِيْ *** رَفْعاً فَمَحْمُوْلٌ عَلَى الأسْبَابِ قولُهُ: (رفعاً)، أي: مرفوعاً فأتى بالمصدرِ موضعَ المفعولِ، أي: وعَدُّ تفسيرِ الصحابةِ مرفوعاً محمولٌ على تفسيرٍ فيه أسبابُ النزولِ. ولم يعيّن ابنُ الصلاحِ القائلَ بأنَّ مطلقَ تفسيرِ الصحابيِّ مرفوعٌ، وهو الحاكمُ وعزاهُ للشيخينِ فقال في " المستدركِ ": ليعلمَ طالبُ العلمِ أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شَهِدَ الوحيَ والتنزيلَ عندَ الشيخينِ حديثٌ مسندٌ. قال ابنُ الصلاحِ إنَّما ذلك في تفسيرٍ يتعلقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يخبرُ بها الصحابيُّ أو نحوِ ذلك، كقولِ جابرٍ: «كانتِ اليهودُ تقولُ: مَنْ أتَى امرأتَهُ مِن دُبرِها في قُبُلِها جاءَ الولدُ أحولَ، فأنزلَ اللهُ تعالى: {نِسَاْؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ...} الآية. قال: فأمّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ التي لا تشتمِلُ على إضافةِ شيءٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعدودةٌ في الموقوفاتِ.
113. وَقَوْلُهُمْ (يَرْفَعُهُ) (يَبْلُغُ بِهْ) *** (رِوَايَةً) (يَنْمِيْهِ) رَفْعٌ فَانْتِبَهْ 114. وَإنْ يَقُلْ (عَنْ تَابعٍ) فَمُرْسَلُ *** قُلْتُ: (مِنَ السُّنَّةِ) عَنْهُ نَقَلُوْا 115. تَصْحِيْحَ وَقْفِهِ وَذُو احْتِمَالِ *** نَحْوُ (أُمِرْنَا) مِنْهُ (للغَزَالِيْ) أي: وقولُهم عن الصحابيِّ يرفعُ الحديثَ، أو يَبْلُغُ بِهِ، أو يَنْمِيهِ، أو رِوايةُ رفعٍ، أي: مرفوعٍ. قال ابنُ الصلاحِ: وحكمُ ذلك عند أهلِ العلمِ حكمُ المرفوعِ صريحاً. وذلك كقولِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه: «الشفاءُ في ثلاثٍ: شَرْبةِ عَسَلٍ، وشَرْطةِ مِحْجمٍ، وكَيَّةِ نارٍ. وأَنْهَى أُمتي عن الكيِّ» رَفَعَ الحديثَ. رواهُ البخاريُّ من روايةِ سعيدِ بنِ جُبيرٍ عنه. ورواهُ مسلمٌ من روايةِ أبي الزِّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرةَ يَبْلُغُ به قال: «الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ» وفي الصحيحينِ بهذا السندِ عن أبي هريرةَ روايةً «تقاتِلُون قوماً صِغارَ الأعيُنِ» … الحديثَ. وروى مالكٌ في "الموطأ" عن أبي حازمٍ، عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ، قال: «كانَ الناسُ يُؤمرونَ أنْ يضعَ الرجلُ يدَهُ اليُمنى على ذِراعِهِ اليُسْرى في الصلاة»، قال أبو حازمٍ: لا أعلمُ إلاَّ أنَّهُ يَنْمِى ذلكَ. قال مالكٌ: يرفعُ ذلك.هذا لفظُ روايةِ عبدِ اللهِ بنِ يوسفَ، وقد رواهُ البخاريُّ من طريقِ القعنبيِّ عن مالكٍ، فقال: يَنْمِي ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَصَرَّحَ برفْعِهِ.
وقولُهُ: (وإنْ يَقُلْ)، أي: وإن يقل ذلك، أي: هذه الألفاظَ عن تابعيٍّ فهو مرسلٌ، وقولُهُ: (قلتُ من السُنَّةِ) إلى آخر الباب: هو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ. وقولُهُ: (عنه)، أي: عن التابعيِّ. وكذا قولُهُ- بعدَهُ-: (منه). فإذا قالَ التابعيُّ من السنةِ كذا فهل هو موقوفٌ متصلٌ، أو مرفوعٌ مرسلٌ كالذي قبلَهُ؟ فِيْهِ وجهانِ لأصحابِ الشافعيِّ. مثالُهُ ما رَوَاهُ البيهقيُّ من قولِ عُبيدِ الله بن عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ: السنَّةُ: تكبيرُ الإمامِ يومَ الفطرِ ويومَ الأضحى حِيْنَ يجلسُ عَلَى المنبرِ قَبْلَ الخطبةِ؛ تسعَ تكبيراتٍ. وحكى الداوديُّ في شرحِ مختصر المُزَني أنَّ الشافعيَّ كان يَرَى في القديمِ أنَّ ذلك مرفوعٌ إذا صَدَرَ من الصحابيِّ، أو التابعيِّ ثم رَجَعَ عنه لأنَّهُم قد يُطلِقونَه ويُريدونَ سُنَّةَ البلدِ. انتهى. والأصحُ في مسألة التابعيِّ كما قالَ النوويُّ في " شرح المهذبِ " أنَّهُ موقوفٌ. وعلى هذا فما الفرقُ بينَهُ وبينَ المسألةِ التي قبلَهُ؟ يمكنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بأنَّ قولَهُ: يرفعُ الْحَدِيْث تصريحٌ بالرفعِ، وقريبٌ مِنْهُ الألفاظُ المذكورةُ مَعَهُ. وأما قولُهُ: من السُّنَّةِ، فكثيراً ما يعبَّرُ بِهِ عَنْ سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ. ويترجحُ ذَلِكَ إذا قالَهُ التابعيُّ بخلافِ ما إذا قالَهُ الصحابيُّ، فإنَّ الظاهرَ أنَّ مرادَهُ سنةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وإذا قالَ التابعيُّ: «أُمِرْنا بكذا»، ونحوه، فهل يكونُ موقوفاً، أو مرفوعاً مرسلاً؟ فيه احتمالان لأبي حامدٍ الغزاليِّ في " المستصفى " ولم يُرَجِّح واحداً مِنَ الاحتمالينِ. وجَزَمَ ابنُ الصَّبَّاغِ في "العُدَّة" بأنَّهُ مرسلٌ. وحكى فيما إذا قالَ ذلك سعيدُ بنُ المسيِّبُ، هل يكونُ حجةً؟ وجهين، والله أعلم.
116. وَمَا أَتَى عَنْ صَاحِبٍ بحَيْثُ لا *** يُقَالُ رَأيَاً حُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى 117. مَا قَالَ في المَحْصُوْلِ نَحْوُ مَنْ أتَى *** (فَالحَاكِمُ) الرَّفْعَ لِهَذَا أثْبَتَا أي: وما جاءَ عن صحابيٍّ موقوفاً عليهِ، ومثلُه لا يُقالُ مِنْ قبلِ الرأي حكْمُهُ حكمُ المرفوعِ كما قالَ الإمامُ فخرُ الدينِ في " المحصولِ ". فقال: إذا قالَ الصحابيُّ قولاً، ليس للاجتهادِ فيه مجالٌ فهو محمولٌ على السماعِ تحسيناً للظنِّ به. وقولُهُ: (نحو مَنْ أتى)، أي: كقولِ ابن مسعودٍ: «مَنْ أتى ساحراً، أو عرّافاً، فقد كفرَ بما أُنزلَ على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم»، ترجمَ عليه الحاكمُ في " علومِ الحديثِ ": معرفةُ المسانيدِ التي لا يذكرُ سندُها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: ومثالُ ذلك، فذكرَ ثلاثةَ أحاديثَ، هذا أحدُها. وما قالَهُ في " المحصولِ " موجودٌ في كلامِ غيرِ واحدٍ من الأئمةِ، كأبي عمرَ بنِ عبدِ البرِّ، وغيرِهِ. وقد أدخلَ ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِهِ " التقصي " عِدَّةَ أحاديثَ، ذكرَها مالكٌ في " الموطّأ " موقوفةً مع أنَّ موضوع الكتابِ لما في " الموطّأ " من الأحاديثِ المرفوعةِ، منها حديثُ سهلِ بنِ أبي حَثَمةَ في صلاةِ الخوفِ. وقالَ في " التمهيد ": هذا الحديثُ موقوفٌ على سَهْلٍ في " الموطّأ " عند جماعةِ الرواةِ عن مالكٍ.- قال-: ومثلُه لا يقالُ من جهةِ الرأي، وكثيراً ما شنّع ابنُ حزم في "المحلى" على القائلين بهذا، فيقولُ: عهدناهم يقولون لا يُقالُ: مثلُ هذا من قبل الرأي. ولإنكارِهِ وجهٌ؛ فإنَّهُ وإنْ كان لا يقالُ مثلُهُ من جهةِ الرأي، فلعلَّ بعضَ ذلك سمعَهُ ذلك الصحابيُّ من أهل الكتابِ. وقد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من كعب الأحبارِ، ورَوَوا عنه كما سيأتي، منهم: العبادلةُ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «حدّثوا عن بني إسرائيلَ، ولا حرجَ».
118. وَمَا رَوَاهُ عَنْ (أبِي هُرَيْرَةِ) *** (مُحَمَّدٌ) وَعَنْهُ أهْلُ البَصْرَةِ 119. كَرَّرَ (قَالَ) بَعْدُ، (فَالخَطِيْبُ) *** رَوَى بِهِ الرَّفْعَ وَذَا عَجِيْبُ أي: وما رواهُ أهلُ البصرةِ عن محمّدِ بنِ سيرينَ، عن أبي هريرةَ قَالَ: قَالَ، فذكرَ حديثاً، وَلَمْ يذكرْ فِيْهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وإنّما كرّرَ لفظَ قَالَ بعدَ ذكرِ أبي هريرةَ. فإنَّ الخطيبَ رَوَى في " الكفاية " من طريقِ موسى بنِ هارونَ الحمّالِ بسندِهِ، إِلَى حمّادِ بنِ زيدٍ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ، قَالَ: قَالَ: الملائكةُ تصلّي عَلَى أحدِكم ما دامَ في مُصَلاَّهُ. قَالَ موسى بنُ هارونَ: إذا قَالَ حمّادُ بنُ زيدٍ والبصريون: قالَ: قالَ، فَهُوَ مرفوعٌ. قَالَ الخطيبُ: قلتُ للبَرْقانيِّ: أحسبُ أنَّ موسى عَنيَ بهذا القولِ أحاديثَ ابنِ سيرينَ خاصّةً، فَقَالَ: كَذَا يجبُ.- قال الخطيبُ-: ويحقّقُ قولَ موسى: ما قال محمدُ بنُ سيرين: كلَّ شيءٍ حدَّثتُ عن أبي هريرةَ، فهو مرفوعٌ. قلتُ: ووقعَ في الصحيحِ من ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ في المناقبِ، حدّثنا سليمانُ بنُ حربٍ، حدَّثنا حمّادٌ، عن أيوبَ، عن محمدٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال: «أسلمُ وغِفَارُ وشَيءٌ مِنْ مُزَيْنةَ، … الحديث». والحديثُ عند مسلمٍ من روايةِ ابنِ عُلَيَّةَ، عن أيوبَ مصرحٌ فيه بالرفعِ. وأما الحديثُ الذي رواهُ الخطيبُ فهو عند النسائيِّ في " سننِه الكبرى " من روايةِ ابن عُلَيَّةَ، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرينَ. ومن روايةِ ابنِ عونٍ، عن ابنِ سيرينَ أيضاً كذلك.
120. مَرْفُوعُ تَابعٍ عَلى المَشهُوْرِ *** مُرْسَلٌ اوْ قَيّدْهُ بِالكَبِيْرِ 121. أوْ سَقْطُ رَاوٍ مِنْهُ ذُوْ أقْوَالِ *** وَالأوَّلُ الأكْثَرُ في استِعْمَالِ اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرسلِ. فالمشهورُ: أنَّهُ مَا رَفَعهُ التابعيُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كانَ مِنْ كبارِ التابعينَ، كعُبيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيَارِ وقيسِ بن أبي حازمٍ، وسعيدِ بنِ المسِّيبِ، وأمثالِهم. أو من صغارِ التابعينَ، كالزهريِّ وأبي حازمٍ، ويحيى ابنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، وأشباهِهِم. والقولُ الثاني: أنّهُ ما رفَعهُ التابعيُّ الكبيرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قولِهِ: (او قيّدهُ بالكبيرِ)، أي: بالكبيرِ من التابعينَ، فهذه الصورةُ لا خلافَ فيها، كما قالَ ابنُ الصلاحِ. أما مراسيلُ صغارِ التابعينَ، فإنّها لا تسمّى مرسلةً على هذا القولِ، بل هي منقطعةٌ. هكذا حكاهُ ابنُ عبد البرِّ عن قومٍ من أهلِ الحديثِ؛ لأنَّ أكثرَ رواياتِهِم عن التابعينَ ولم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنين. قلتُ: هكذا مَثَّلَ ابنُ الصلاحِ صغارَ التابعينَ بالزهريِّ ومَنْ ذَكَرَ، وذكرَ في التعليلِ أنَّهم لم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنينِ، وليس ذلك بصحيحٍ بالنسبةِ إلى الزهريِّ، فقد لقي من الصحابةِ اثني عشرَ فأكثرَ، وهم: عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، وأنسُ بن مالكٍ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وربيعةُ بنُ عِبادٍ، وعبدُ اللهِ بنُ جعفرٍ، والسائبُ بنُ يزيدَ، وسُنَيْن أبو جَميلةَ، وعبدُ الله بنُ عامرٍ بنِ ربيعةَ، وأبو الطُّفيلِ، ومحمودُ بنُ الربيعِ، والمِسورُ بنُ مَخْرمة، وعبد الرحمن بنُ أزهر. ولم يسمع من عبدِ الله بنِ جعفر، بل رآه رؤيةً. وقيل: إنّه سمعَ من جابرٍ. وقد سمعَ من محمودِ بنِ لبيدٍ، وعبدِ الله بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ، وثعلبةَ بنِ مالكٍ القرظيِّ. وهم مختلفٌ في صحبتِهم. وأنكرَ أحمدُ ويحيى سماعَهُ من ابنِ عمرَ، وأثبتَهُ عليُّ بنُ المدينيِّ. القولُ الثالثُ: إنهُ ما سقطَ راوٍ من إسنادِهِ، فأكثرُ، من أيِّ موضعٍ كان، فعلى هذا المرسلُ والمنقطعُ واحدٌ. قالَ ابنُ الصلاحِ: والمعروفُ في الفقهِ وأصولِهِ أنَّ ذلك يُسمّى مرسلاً. وبهِ قطعَ الخطيبُ، قال الخطيبُ: إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقطعَ الحاكم وغيرُهُ من أهلِ الحديثِ أنَّ الإرسالَ مخصوصٌ بالتابعينَ. وسيجيءُ في فصلِ التدليسِ: أنَّ ابنَ القطّانِ قال: إنَّ الإرسالَ: روايتُهُ عمَّنْ لم يسمع منه. فعلى هذا مَنْ رَوَى عمَّنْ سمعَ منه ما لم يسمعْهُ منه، بل بينَه وبينَه فيه واسطةٌ، ليس بإرسالٍ، بل هو تدليسٌ، وعلى هذا فيكونُ هذا قولاً رابعاً في حَدِّ المرسلِ. 122. وَاحتَجَّ (مَاِلِكٌ) كَذا (النُّعْمَانُ) *** وَتَابِعُوْهُمَا بِهِ وَدَانُوْا 123. وَرَدَّهُ جَمَاهِرُ النُّقَّادِ؛ *** لِلجَهْلِ بِالسَّاقِطِ في الإسْنَادِ 124. وَصَاحِبُ التَّمهيدِ عَنهُمْ نَقَلَهْ *** وَ (مُسْلِمٌ) صَدْرَ الكِتَابِ أصَّلَهْ اختلفَ العلماءُ في الاحتجاجِ بالمرسلِ، فذهبَ مالكُ بنُ أنسٍ وأبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ وأتباعُهُما في طائفةٍ إلى الاحتجاج به. فقولُهُ: (وتابعُوهما) أي: التابعونَ لهما. (ودانوا) أي: جعلَوهُ دِيناً يدينونَ به، وذهب أكثرُ أهلِ الحديثِ إلى أنَّ المرسلَ ضعيفٌ لا يحتجُّ به. وحكاه ابنُ عبد البرِّ في مقدّمة " التمهيد " عن جماعةٍ من أصحابِ الحديثِ. وقال مسلمٌ في صَدْرِ كتابهِ " الصحيحِ ": «المرسلُ في أصلِ قولِنا، وقولِ أهل العلمِ بالأخبارِ ليس بحُجَّةٍ». هكذا أطلقَ ابنُ الصلاحِ نَقْلَهُ عن مسلمٍ. ومسلمٌ إنّما ذكرَهُ في أثناءِ كلامِ خَصْمِهِ الذي رَدَّ عليهِ اشتراطَ ثبوتِ اللقاءِ، فقال: «فإنْ قال: قُلْتُهُ لأنِّي وَجَدْتُ رواةَ الأخبارِ قديماً وحديثاً يَروي أحدُهُم عن الآخر الحديثَ، ولمّا يُعاينْهُ، وما سَمِعَ منه شيئاً قَطُّ، فلمّا رأيتُهُم استجازُوا روايةَ الحديثِ بَينهُم هكذا على الإرسالِ مِنْ غَيْرِ سماعٍ- والمرسلُ من الرواياتِ في أصلِ قولِنا، وقولِ أهلِ العلمِ بالأخبارِ، ليس بحجّةٍ- احتجتُ لما وصفْتُ من العلّةِ إلى البحث عن سماعِ راوي كُلِّ خبرٍ عن راويه، إلى آخر كلامهِ». فهذا كما تراهُ حكاهُ على لسانِ خَصْمِهِ، ولكنَّهُ لمّا لم يرد هذا القدرَ منه حين رَدَّ كلامَهُ، كان كأنَّهُ قائلٌ به، فلهذا نسبَهُ ابنُ الصلاحِ إليه. وقولُهُ: (للجهلِ بالساقطِ)، هو تعليلٌ لردِّ المرسلِ، وذلك أنهُ تقدّمَ أنَّ مِن شرطِ الحديثِ الصحيحِ ثقةَ رجالِهِ. والمرسلُ سقطَ منه رجلٌ لا نعلَمُ حالَه. فعدمُ معرفةِ عدالةِ بعض رواتِهِ، وإنِ اتفقَ أنَّ الذي أرسلَهُ كان لا يَروي إلا عن ثقةٍ، فالتوثيقُ في الرجلِ المبهمِ غيرُ كافٍ، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى. 125. لَكِنْ إذا صَحَّ لَنَا مَخْرَجُهُ *** بمُسْنَدٍ أو مُرْسَلٍ يُخْرِجُهُ 126. مَنْ لَيْسَ يَرْوِي عَنْ رِجَالِ الأوَّلِ *** نَقْبَلْهُ، قُلْتُ: الشَّيْخُ لَمْ يُفَصِّلِ 127. و (الشَّافِعِيُّ) بِالكِبَارِ قَيَّدَا *** وَمَنْ رَوَى عَنِ الثِّقاتِ أبَدَا 128. وَمَنْ إذا شَارَكَ أهْلَ الحِفْظِ *** وَافَقَهُمْ إلاّ بِنَقْصِ لَفْظِ هذا استدراكٌ؛ لكونِ المرسلِ يُحتجُّ به إذا أُسندَ من وجهٍ آخرَ، أو أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ المُرسِلِ الأولِ. وقولُهُ: (نقبلْهُ)، هو مجزومٌ جوابٌ للشرطِ على مذهبِ الكوفيينَ والأخفشِ كقولِ الشاعرِ: وإذَا تُصِبْكَ مُصِيْبَةٌ فاصبرْ لَهَاْ وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فتجَمَّلِ وقولُهُ: (قلتُ الشيخُ)، إلى آخر الأبياتِ الأربعةِ، من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، وهو اعتراضٌ عليهِ في حكايتِهِ لكلامِ الشافعيِّ رضي الله عنه. قالَ ابنُ الصَّلاحِ: اعلم أنَّ حكمَ المرسَلِ حكمُ الحديثِ الضعيفِ، إلاّ أنْ يصحَّ مخرجُهُ بمجيِئهِ من وجهٍ آخرَ، كما سبق بيانُهُ في نوعِ الحسن، والذي ذكرَ أنَّهُ سبقَ أنّه حكى هناكَ نصَّ الشافعيِّ في مراسيلِ التابعينَ أنّهُ يُقْبَلُ منها المرسلُ الذي جاءَ نحوَهُ مسنداً، وكذلك لو وافقَهُ مرسلٌ آخرُ أرسلَهُ مَنْ أخذَ العلمَ عن غيرِ رجالِ التابعيِّ الأولِ. في كلامٍ لهُ ذكرَ فيه وجوهاً من الاستدلالِ على صحةِ مخرجِ المرسلِ بمجيئِهِ من وجهِ آخرَ. انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ. ووجهُ الاعتراضِ عليه أنَّهُ أطلقَ القولَ عن الشافعيِّ بأنَّهُ يقبلُ مطلقَ المرسلِ إذا تأكَّدَ بما ذكرَهُ الشافعيُّ. والشافعيُّ إنّما يقبلُ مراسيلَ كِبارِ التابعينَ، إذا تأكدتْ مع وجودِ الشرطينِ المذكورينِ في كَلامي، كما نصَّ عليه في كتابِ " الرسالة ". وممَّنْ روى كلامَ الشافعيِّ كذلك أبو بكرٍ الخطيبُ في " الكفاية "، وأبو بكرِ البيهقيُّ في "المدخلِ" بإسنادَيهما الصحيحينِ إليه، أنّهُ قالَ: «والمنقطعُ مختلِفٌ. فمَنْ شاهدَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن التابعينَ فحدَّثَ حديثاً منقطعاً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم اعتُبِرَ عليه بأمُورٍ، منها: أنْ يُنظرَ إلى ما أرسلَ من الحديثِ. فإنْ شَرِكَهُ فيه الحفّاظُ المأمونونَ فأسندوهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بمثلِ معنى ما روي؛ كانت هذهِ دلالةً على صحةِ ما قَبِلَ عنه وحفْظَهُ. وإنِ انفردَ بإرسالِ حديثٍ لم يَشْرَكْهُ فيه مَنْ يُسنِدُهُ قُبِلَ ما يَنفردُ به من ذلك. ويُعتبرُ عليه بأنْ يُنظرَ: هل يوافقُهُ مُرْسِلٌ غيرُهُ ممَّنْ قَبِلَ العلم من غيرِ رجالِهِ الذينَ قَبلَ عنهم؟ فإنْ وُجِدَ ذلك كانت دلالةً تُقَوِّي له مرسله، وهي أضعفُ من الأُولى، وإنْ لم يُوجدْ ذلك نظَرَ إلى بعضِ ما يروى عن بعضِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإنْ وجدَ ما يوافقُ ما روى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانتْ في هذا دلالةٌ على أنَّهُ لم يأخذْ مرسلَهُ إلا عن أصلٍ يصحُّ إن شاء اللهُ تعالى، وكذلك إنْ وُجدَ عوامُّ مِنْ أهلِ العلمِ يُفْتُونَ بمثلِ معنى ما روي عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم يُعتبرُ عليهِ بأنْ يكونَ إذا سَمَّى مَنْ رَوَى عنهُ لم يُسَمِّ مجهولاً، ولا مرغوباً عن الروايةِ عنه، فيُستدلُّ بذلك على صحتِهِ فيما رَوَى عنه. ويكونُ إذا شَرِكَ أحداً من الحفّاظِ في حديثِهِ لم يخالفْهُ، فإن خالفَهُ بأنْ وُجدَ حديثُهُ أنقصَ، كانت في هذهِ دلائلُ على صحةِ مَخْرَجِ حديثِهِ ومتى خالفَ ما وصفتُ أضَرَّ بحديثِهِ، حتى لا يَسَعَ أحداً قبولُ مُرسَلِهِ. قال: وإذا وُجدتِ الدلائلُ بصحةِ حديثهِ بما وصفتُ أحببنا أنْ نقبلَ مرسلَهُ. ثم قال: فأمّا مَنْ بعدَ كبارِ التابعينَ، فلا أعلمُ واحداً يُقْبَلُ مرسَلُهُ لأمورٍ: أحدُها: أنَّهُم أشدُّ تَجَوُّزاً فيمَنْ يَروُوْنَ عنه. والآخَرُ: أنّهمُ وجدَ عليهم الدلائلُ فيما أرسلوا لضَعْفِ مَخْرَجِهِ. والآخَرُ: كثرةُ الإحالةِ في الأخبارِ. وإذا كثرتِ الإحالةُ كانَ أمْكَنَ للوهمِ وضَعْفِ مَن يُقبلُ عنه. قال البيهقيُّ: وقولُ الشافعيِّ: أحببنَا أن نقبلَ مرسلَهُ. أرادَ به: اخترنا. انتهى. فقولي: (وَمَنْ رَوى عَن الثقاتِ أبداً) أي: إذا أرسلَ وسمَّى مَنْ أرسَلَ عنه لم يسمِّ إلا ثقةً، فيكونُ المرادُ: ومَنْ رَوَى ما أرْسَلَهُ عنِ الثقاتِ. ويحتملُ: ومَنْ رَوَى مطلقاً عن الثقاتِ المراسيلَ وغيرَها. وعبارة الشافعيِّ محتمِلَةٌ للأمْرَيْنِ فليحملِ النَّظْمُ على أرجحِ محملَيْ كلامِ الشافعيِّ رضي الله عنه. 129. فَإنْ يُقَلْ: فَالمُسْنَدُ المُعْتَمَدُ *** فَقُلْ: دَلِيْلانِ بِهِ يَعْتَضِدُ أي: فإنْ قيلَ: قولُكم يُقبلُ المرسلُ إذا جاءَ مسنداً مِنْ وجهٍ آخرَ، لا حاجةَ حينئذٍ إلى المرسلِ، بلِ الاعتمادُ حينئذٍ على الحديثِ المُسنَدِ. والجوابُ أنَّهُ بالمسنَدِ تبيَّنَا صحةَ المرسلِ، وصارا دليلينِ يُرَجَّحُ بهما عندَ معارضةِ دليلِ واحد. فقولُهُ: به، أي: بالمُسنَدِ يعتضدُ المرسلُ. 130. وَرَسَمُوا مُنْقَطِعَاً (عَنْ رَجُلِ) *** وَفي الأصُوْلِ نَعْتُهُ: بِالمُرْسَلِ أي: إذا قيلَ في إسنادٍ: عن رجلٍ، أو عن شيخٍ، ونحو ذلك. فقالَ الحاكمُ: لا يُسَمَّى مرسلاً، بل منقطعاً. وكذا قالَ ابنُ القطّانِ في كتابِ " بيانِ الوهمِ والإيهامِ ": إنَّهُ منقطعٌ. وفي " البرهان " لإمامِ الحرمينِ قَالَ: وقولُ الرَّاوِي: أَخْبَرَنِي رجلٌ، أو عدلٌ موثوقٌ بِهِ، من المرسلِ أيضاً. قَالَ: وَكَذَلِكَ كُتُبُ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم التي لم يُسَمَّ حاملُها. وفي "المحصول": أنَّ الراوي إذا سمّى الأصلَ باسمٍ لا يُعرفُ به، فهو كالمرسلِ. قلتُ: وفي كلامِ غيرِ واحدٍ من أهلِ الحديثِ، أنَّهُ متّصلٌ في إسنادِهِ مجهولٌ. وحكاهُ الرشيدُ العَطَّارُ في " الغُررِ المجموعةِ " عن الأكثرينَ، واختارَهُ شيخُنا الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " جامعِ التحصيلِ ". 131. أمَّا الَّذِي أرْسَلَهُ الصَّحَابِيْ *** فَحُكمُهُ الوَصْلُ عَلى الصَّوَابِ أي: أمّا مراسيلُ الصحابةِ فحكمُها حكمُ الموصولِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: ثم إنا لم نعدَّ في أنواعِ المرسلِ، ونحوِه، ما يسمَّى في أُصولِ الفِقهِ: مرسلُ الصحابيِّ. مثلُ ما يرويه ابنُ عبّاسٍ، وغيرُهُ من أحداث الصحابةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعُوْهُ منه، لأنَّ ذلك في حُكمِ الموصولِ المسنَدِ؛ لأنَّ روايتَهُم عن الصحابةِ، والجهالةُ بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهُم عدولٌ. قلتُ: قولُهُ: لأنَّ روايَتَهم عن الصحابةِ، فيه نظرٌ. والصوابُ أنْ يُقَالَ: لأنَّ غالبَ روايتِهِم، إذ قد سمعَ جماعةٌ من الصحابةِ من بعض التابعينَ. وسيأتي في كلامِ ابنِ الصلاحِ في روايةِ الأكابرِ عن الأصاغر، أنَّ ابنَ عباسٍ، وبقيّةَ العبادلةِ رَوَوْا عن كعبِ الأحبار، وهو من التابعينَ، وروى كعبٌ أيضاً عن التابعينَ، ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ خلافاً في مُرْسَلِ الصحابيِّ، وفي بعضِ كُتُبِ الأصولِ للحنفيَّةِ أنَّهُ لا خلافَ في الاحتجاجِ به، وليسَ بجيِّدٍ. فقد قال الأستاذُ أبو إسحاق الاسفراينيُّ: إنَّهُ لا يحتجُّ به، والصوابُ ما تقدّم.
132. وَسَمِّ بِالمُنْقَطِعِ: الَّذِي سَقَطْ *** قَبْلَ الصَّحَابيِّ بِهِ رَاوٍ فَقَطْ 133. وَقِيْلَ: مَا لَمْ يَتَّصِلْ، وَقَالا: *** بِأنَّهُ الأقْرَبُ لا استِعمَالا 134. وَالمُعْضَلُ: السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ *** فَصَاعِداً، وَمِنْهُ قِسْمٌ ثَانِ 135. حَذْفُ النَّبِيِّ وَالصَّحَابِيِّ مَعَا *** وَوَقْفُ مَتْنِهِ عَلَى مَنْ تَبِعَا اختُلِفَ في صورةِ الحديثِ المنقطعِ. فالمشهورُ: أنّهُ ما سقطَ من رواتِهِ راوٍ واحدٌ غيرُ الصحابيِّ. وحكى ابنُ الصلاحِ عن الحاكمِ وغيرِهِ من أهلِ الحديثِ: أنَّهُ ما سقطَ منه قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ شخصٌ واحدٌ، وإن كان أكثر من واحدٍ سمّي: معضلاً. ويسمّى أيضاً: منقطعاً. فقولُ الحاكمِ: قبلَ الوصولِ إلى التابعيِّ، ليس بجيّدٍ. فإنَّهُ لو سقط التابعيُّ كان منقطعاً أيضاً، فالأولى أنْ يعبرَ بما قلناهُ: قبل الصحابيِّ. وقالَ ابنُ عبد البرِّ: المنقطعُ ما لم يتصلْ إسنادُهُ، والمرسلُ مخصوصٌ بالتابعينَ. فالمنقطعُ أعمُّ. وحكى ابنُ الصلاحِ عن بعضِهِم أنَّ المنقطعَ مثلُ المرسلِ، وكلاهما شاملٌ لكلِّ ما لا يتصلُ إسنادُه.- قال-: وهذا المذهبُ أقربُ، صارَ إليه طوائفُ من الفقهاءِ وغيرِهم. وهو الذي ذكرَهُ الخطيبُ في " كفَايَتِهِ " إلا أنَّ أكثرَ ما يوصفُ بالإرسالِ من حيثُ الاستعمالُ ما رواهُ التابعيُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأكثرُ ما يوصفُ بالانقطاعِ ما رواهُ مَنْ دون التابعينَ عن الصحابةِ. مثلُ: مالكٍ، عن ابنِ عمر، ونحوِ ذلك. انتهى. والمعضلُ: ما سقطَ من إسنادِه اثنان فصاعداً من أي موضعٍ كان. سواءٌ سقطَ الصحابيُّ والتابعيُّ، أو التابعيُّ وتابعُهُ، أو اثنانِ قبلَهُما، لكن بشرطِ أنْ يكونَ سقوطُهُما من موضعٍ واحدٍ. أمّا إذا سقطَ واحدٌ من بين رجلين، ثم سقطَ من موضعٍ آخرَ من الإسنادِ واحدٌ آخرُ فهو منقطعٌ في موضعينِ. ولم أجدْ في كلامِهم إطلاقَ المعضلِ عليه، وإنْ كان ابنُ الصلاحِ أطلقَ عليه سقوطَ اثنينِ فصاعداً، فهو محمولٌ على هذا. وأما اشتقاقُ لفظهِ، فقالَ ابنُ الصلاحِ: أهلُ الحديثِ يقولون: أعضَلَهُ فهو مُعْضَلٌ- بفتح الضّادِ-، وهو اصطلاحٌ مُشِكلُ المأخَذِ من حيث اللغةُ، وبحثتُ فوَجَدْتُ له قولَهُمْ: أمرٌ عَضِيْلٌ، أيْ: مستغلقٌ شديدٌ. ولا التفاتَ في ذلك إلى مُعْضِلٍ-بكسرِ الضادِ- وإنْ كانَ مثلَ عَضِيلٍ في المعنى. ومَثَّلَ أبو نصرٍ السِّجزِيُّ المعضَلَ بقولِ مالكٍ: بَلَغني عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: «للمملوكِ طعامُهُ وكِسْوتُهُ، …الحديث». وقالَ أصحابُ الحديثِ يسمُّونَه المعضلَ. قال ابنُ الصلاحِ: وقولُ المُصَنِّفِين: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا، من قَبيلِ المعضَلِ. وقولُهُ: (ومنه قسمٌ ثانٍ)، أي: ومن المعضَلِ قسمٌ ثانٍ، وهو أنْ يروِيَ تابعُ التابعيِّ عن التابعيِّ حديثاً موقوفاً عليه، وهو حديثٌ متّصلٌ مسندٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، كما روى الأعمشُ عن الشَّعبيِّ، قال: يُقالُ للرجلِ في القيامةِ عَمِلْتَ كذا وكذا، فيقولُ ما عَمِلتُهُ. فيُخْتَمُ على فِيْهِ، الحديثَ. فقد جعلَهُ الحاكمُ نوعاً من المعضَلِ، أعضَلَهُ الأعمشُ، ووصَلَهُ فُضَيلُ بنُ عمرٍو، عن الشعبيِّ، عن أنسٍ، قال: كنا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فضَحِكَ. فقال: هل تَدرُونَ مِمَّ أضحَكُ؟ قلنا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ، فقال: من مخاطبةِ العبدِ ربَّهُ، يقولُ: يا ربِّ! ألم تُجِرْنِي من الظُّلمِ؟ فيقولُ: بَلَى. وذكرَ الحديثَ. رواه مسلمٌ. قالَ ابنُ الصلاحِ: هذا جيّدٌ حسنٌ؛ لأنَّ هذا الانقطاعَ بواحدٍ مضموماً إلى الوقفِ يشْتَمِلُ على الانقطاعِ باثنينِ: الصحابيِّ، ورسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذلك باستحقاقِ اسمِ الإعضالِ أولَى.
136. وَصَحَّحُوا وَصْلَ مُعَنْعَنٍ سَلِمْ *** مِنْ دُلْسَةٍ رَاويْهِ، والِلِّقَا عُلِمْ 137. وَبَعْضُهُمْ حَكَى بِذَا إجمَاعَا *** و (مُسْلِمٌ) لَمْ يَشْرِطِ اجتِمَاعَا 138. لكِنْ تَعَاصُرَاً، وَقِيلَ: يُشْتَرَطْ *** طُوْلُ صَحَابَةٍ، وَبَعْضُهُمْ شَرَطْ 139. مَعْرِفَةَ الرَّاوِي بِالاخْذِ عَنْهُ، *** وَقيْلَ: كُلُّ مَا أَتَانَا مِنْهُ 140. مُنْقَطِعٌ، حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ، *** وَحُكْمُ (أَنَّ) حُكمُ (عَنْ) فَالجُلُّ 141. سَوَّوْا، وَللقَطْعِ نَحَا (البَرْدِيْجِيْ) *** حَتَّى يَبِينَ الوَصْلُ في التَّخْرِيجِ العَنْعَنةُ: مصدرُ عنعنَ الحديثَ، إذا رواه بلفظِ: عَنْ، مِنْ غيرِ بيانٍ للتحديثِ، والإخبارِ، والسماعِ. واختلفوا في حكمِ الإسنادِ المعنعنِ، فالصحيحُ الذي عليهِ العملُ، وذهبَ إليهِ الجماهيرُ من أئمة الحديثِ وغيرِهم، أنَّهُ من قبيلِ الإسنادِ المتصلِ بشرطِ سلامةِ الراوي الذي رواهُ بالعنعنةِ من التدليسِ. وبشرطِ ثبوتِ ملاقاتِهِ لمَنْ رواهُ عنه بالعنعنةِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: «وكادَ ابنُ عبد البرِّ يَدَّعي إجماعَ أئمةِ الحديثِ على ذلك». قلتُ: لا حاجةَ لقولِهِ: كاد، فقد ادّعاهُ. وادّعى أبو عَمْرو الدانيُّ إجماعَ أهلِ النقلِ على ذلكَ، لكنَّهُ اشترطَ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه، كما سيأتي في موضعه. لكن قد يظهرُ عدمُ اتّصالِهِ بوجهٍ آخرَ، كما في الإرسالِ الخفيِّ، على ما سيأتي في موضعِهِ، وما ذكرناهُ من اشتراطِ ثبوتِ اللقاءِ هو مذهبُ عليِّ بنِ المدينيِّ، والبخاريِّ وغيرِهما من أئمة هذا العلمِ. وأنكرَ مسلمٌ في خُطبةِ صحيحِهِ اشتراطَ ذلك، وادّعى أنَّهُ قولٌ مخترعٌ لم يسبقْ قائِلُه إليهِ، وإنَّ القولَ الشائعَ المتفقَ عليهِ بين أهلِ العلمِ بالأخبارِ قديماً وحديثاً أنّهُ يكفي في ذلك أنْ يثبتَ كونُهُما في عصرٍ واحدٍ، وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قطُّ أنّهما اجتمَعا أو تشافها. قال ابنُ الصلاحِ: «وفيما قالَهُ مسلمٌ نظرٌ.- قال-: وهذا الحكمُ لا أراهُ يَستمرُّ بعدَ المتقدّمينَ فيما وُجِدَ من المصنّفينِ في تصانيفهم مما ذكروهُ عن مشايخهِم قائلين فيه: ذكرَ فلانٌ، قال فلانٌ، ونحو ذلك. أي: فليسَ له حكمُ الاتصالِ، إلا إنْ كان له من شيخِهِ إجازةٌ على ما سيأتي في آخر هذا البابِ. ولم يكتفِ أبو المظفرِ السمعانيُّ بثبوتِ اللقاءِ، بل اشترطَ طولَ الصُّحبةِ بينهما. واشترطَ أبو عمرو الدانيُّ أنْ يكونَ معروفاً بالروايةِ عنه.واشترط أبو الحسنِ القابسيُّ أنْ يُدْرِكَهُ إدراكاً بَيِّنَاً. وهذا داخلٌ فيما تقدّمَ من الشروطِ، وبيانُ الإدراكِ لابدَّ منه. وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الإسنادَ المعنعنَ من قبيلِ المرسلِ والمنقطعِ، حتى يتبينَ اتصالُهُ بغيرهِ، وهذا المرادُ بقولِهِ: (وقيل كلُّ ما أتانا منه منقطع)، إلى آخرهِ. وقولُهُ: (وحكمُ أنَّ، حكمُ عَنْ، فالجلُّ سَوَّوا) أي: ذهبَ جمهورُ أهلِ العلمِ إلى التسويةِ بين الروايةِ المعنعنةِ، وبين الروايةِ بلفظِ: أنَّ فلاناً قالَ. وهو قولُ مالكٍ وممنْ حكاهُ عن الجمهورِ ابنُ عبد البرِّ في " التمهيدِ ". وأنَّهُ لا اعتبارَ بالحروفِ والألفاظِ، وإنّما هو باللقاءِ والمجالسةِ والسماعِ والمشاهدةِ يعني: مع السلامةِ من التدليسِ. ثم حكى ابنُ عبد البرِّ عن أبي بكرٍ البرديجيِّ أنَّ حرف (أنَّ) محمولٌ على الانقطاعِ حتى يتبينَ السماعُ في ذلك الخبرِ بعينِهِ من جهةٍ أخرى. قال: وعندِي لا معنى لهذا، لإجماعِهم على أنَّ الإسنادَ المتصلَ بالصحابيِّ، سواءٌ قال فيه: قال، أو أنَّ، أو عَنْ، أو سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني فكلُّهُ متصِلٌ. 142. قَالَ: وَمِثْلَهُ رَأى (ابْنُ شَيْبَةْ) *** كَذا لَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْ صَوْبَهْ 143. قُلتُ: الصَّوَابُ أنَّ مَنْ أدْرَك مَا *** رَوَاهُ بالشَّرْطِ الَّذي تَقَدَّمَا 144. يُحْكَمْ لَهُ بالوَصْلِ كَيفَمَا رَوَى *** بـ (قَالَ) أو (عَنْ) أو بـ (أنَّ) فَسَوَا 145. وَمَا حَكَى عَنْ (أحمَدَ بنِ حنبلِ) *** وَقَولِ (يَعْقُوبٍ) عَلَى ذا نَزِّلِ فاعلُ «قالَ» هو: ابنُ الصلاحِ، فقال: ووجدْتُ مثلَ ما حكاهُ عن البَرْديجي للحافظِ الفَحْلِ يعقوبَ بنِ شيبةَ في مسندِهِ الفحلِ، قال: فإنّهُ ذكرَ ما رواهُ أبو الزبيرِ، عن محمدِ ابن الحنفيةِ، عن عمّارٍ، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلِّي فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السلامَ. وجعلَهُ مسنداً موصولاً. وذكرَ روايةَ قيسِ بنِ سعدٍ، كذلك عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، عن ابنِ الحنفيةَ: أنَّ عمّاراً مَرَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو يصلّي فجعله مرسلاً من حيثُ كونُهُ قالَ: إنَّ عمّاراً فعلَ، ولم يقلْ: عن عمّارٍ، واللهُ أعلم. انتهى كلامُ ابنِ الصلاحِ. ولم يقع على مقصودِ يعقوبَ بنِ شيبةَ، وهو المرادُ بقولِهِ: (كذا له) أي: لابن الصلاحِ. (ولم يُصَوِّبْ صوبَهُ) أي: ولم يعرجْ صوبَ مقصدِهِ، وبيانُ ذلك أنَّ ما فعلَهُ يعقوبُ هو صوابٌ من العملِ، وهو الذي عليه عملُ الناسِ، وهو لم يجعلْهُ مرسلاً من حيثُ لفظُ: أنَّ، وإنّما جعلَهُ مرسلاً من حيثُ أنّهُ لم يُسنِدْ حكايةَ القصةِ إلى عمّارٍ، وإلا فلو قالَ: إنَّ عمّاراً قال: مررتُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما جعلَهُ مرسلاً، فلما أتى به بلفظِ: أنَّ عماراً مرَّ، كانَ محمدُ بنُ الحنفيةِ هو الحاكي لقصّةٍ لم يُدركْهَا؛ لأنَّهُ لَمْ يُدرِكْ مرورَ عمارٍ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكانَ نَقْلُهُ لِذَلِكَ مرسلاً. ثُمَّ بينتُ ذَلِكَ بقاعدةٍ يُعرفُ بِهَا المتصلُ من المرسلِ بقولي: (قلتُ)، وهو من الزوائدِ على ابنِ الصلاحِ، إلا حكايةَ كلامِ أحمدَ ويعقوبَ. وتقريرُ هذهِ القاعدةِ: أنَّ الراوي إذا رَوَى حديثاً فيه قِصّةٌ، أو واقعةٌ، فإن كان أدركَ ما رواهُ، بأنْحكى قصةً وقعت بين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبينَ بعضِ الصحابةِ، والراوي لذلك صحابيٌّ أدركَ تلك الواقعةَ، فهي محكومٌ لها بالاتصالِ، وإنْ لم يُعلَمْ أنّهُ شاهدَها وإنْ لم يدركْ تلك الواقعةَ، فهو مرسلُ صحابيٍّ. وإن كان الراوي تابعياً، فهو منقطعٌ، وإن روى التابعيُّ عن الصحابيِّ قِصَّةً أدركَ وُقوعَها، كان متّصلاً، وإن لم يدركْ وُقوعَها، وأسندَها إلى الصحابيِّ كانت متّصلةً. وإنْ لم يدركْهَا، ولا أسندَ حكايتَها إلى الصحابيِّ فهي منقطعةٌ كروايةِ ابنِ الحنفيةِ الثانيةِ، عن عمّارٍ. ولابُدَّ من اعتبارِ السلامةِ من التدليسِ في التابعينَ، ومَنْ بعدَهم. وقد حكى أبو عبدِ اللهِ بنُ الموَّاقِ اتفاقَ أهلِ التمييزِ من أهلِ الحديثِ على ذلك في كتابه " بُغية النُّقاد " عند ذكرِ حديث عبدِ الرحمنِ بنِ طَرفةَ أنَّ جدَّهُ عَرْفجةَ قُطِعَ أنفُهُ يومَ الكلابِ، … الحديث. فقال: الحديثُ عندَ أبي داودَ مرسلٌ. وقد نبّهَ ابنُ السَّكَنِ على إرسالِه فقال: فذكرَ الحديثَ مرسلاً. قال ابنُ الموَّاقِ: وهو أمرٌ بَيِّنٌ لا خلافَ بين أهل التمييزِ من أهلِ هذا الشأنِ في انقطاعِ ما يُرْوَى كذلك، إذا عُلمَ أنَّ الراويَ لم يدركْ زمانَ القِصَّةِ كما في هذا الحديثِ. وقولُهُ: (فسَوَا)، هو ممدودٌ قُصِرَ لضرورةِ الشعرِ. وقولُهُ: (وما حكى)، أي: ابنُ الصلاح عن أحمدَ بنِ حنبلٍ، فإنّهُ حكى قبلَ هذا عن أحمدَ أنَّ: عَنْ فلانٍ، وأنَّ فلاناً ليسا سواءً. (وقولِ يعقوبٍ)، هو مجرورٌ بالعطفِ، ويعقوبَ: هو ابنُ شيبةَ. (على ذا نَزّلْ) أي: نزلْهُ على هذهِ القاعدةِ. أما كلامُ يعقوبَ فقد تقدمَ تنزيلُهُ عَلَيْهِ. وأما كلامُ أحمدَ فإنَّ الخطيبَ رَوَاهُ في " الكفاية " بإسنادِهِ إِلَى أبي داودَ قَالَ: سمعتُ أحمدَ قيلَ لَهُ: إنَّ رجلاً قَالَ عروةَ: أنَّ عائشةَ قالت: يا رسولَ اللهِ، وعن عروةَ عن عائشةَ سواءٌ؟ قال: كيفَ هذا سواءٌ، ليس هذا بسواءٍ. فإنَّما فرّقَ أحمدُ بين اللفظينِ؛ لأنَّ عروةَ في اللفظِ الأولِ لم يُسنِدْ ذلك إلى عائشةَ، ولا أدرك القِصَّةَ فكانتْ مرسلةً. وأمَّا اللفظُ الثاني فأسْنَدَ ذلك إليها بالعنعنةِ، فكانت متصلةً. 146. وَكَثُرَ استِعْمَالُ (عَنْ) في ذَا الزَّمَنْ *** إجَازَةً وَهْوَ بِوَصْلٍ مَا قَمَنْ ما تقدّم ذكرُهُ من أَنَّ «عَنْ» محمولةٌ على السماعِ، هو في الزَّمَنِ المتقدّمِ. وأمّا في هذه الأزمانِ، فقال: ابنُ الصلاحِ: كَثُرَ في عَصرنا وما قاربَهُ بين المنتسبينَ إلى الحديثِ استعمالُ «عَنْ» في الإجازةِ فإذا قال أحدُهُم: قرأتُ على فلانٍ، عن فلانٍ، أو نحو ذلك. فَظُنَّ بهِ أنَّهُ رواهُ عنهُ بالإجازة قال: ولا يُخْرِجُه ذلك من قَبيلِ الاتصالِ على ما لا يخفى. وهذا معنى قولي: (وهو بوصلٍ ما قَمَنْ)، أي: بنوعٍ من الوصلِ؛ لأنَّ الإجازةَ لها حكمُ الاتصالِ لا القطعِ. وقَمَنْ: بفتحِ الميمِ لمناسبةِ ما قبَلَهُ، وفي الميمِ لغتان: الفتحُ، والكسرُ. ومَعناهُ حَقِيقٌ بذلك وجَدِيرٌ به.
147. وَاحْكُمْ لِوَصْلِ ثِقَةٍ في الأظْهَرِ *** وَقِيْلَ: بَلْ إرْسَالُهُ لِلأكْثَرِ 148. وَنَسبَ الأوَّلَ لِلْنُّظَّارِ *** أنْ صَحَّحُوْهُ، وَقَضَى (البُخَارِيْ) 149. بِوَصْلِ «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيْ» *** مَعْ كَوْنِ مَنْ أَرْسَلَهُ كَالْجَبَلِ 150. وَقِيْلَ الاكْثَرُ، وَقِيْلَ: الاحْفَظُ *** ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ 151. يَقْدَحُ فِي أَهْليَّةِ الوَاصِلِ، أوْ *** مُسْنَدِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَرَأَوْا 152. أَنَّ الأصَحَّ: الْحُكْمُ لِلرَّفْعِ وَلَوْ *** مِنْ وَاحِدٍ في ذَا وَذَا، كَما حَكَوْا إذا اختلفَ الثقاتُ في حديثٍ، فرواهُ بعضُهم متّصلاً، وبعضُهم مرسلاً. فاختلفَ أهلُ الحديثِ فيهِ هلِ الحكمُ لمَنْ وصلَ، أو لمَنْ أرسلَ، أو للأكثرِ، أو للأحفظِ؟ على أربعةِ أقوالٍ: أحدُها: أنَّ الحكمَ لَمنْ وصلَ، وهو الأظهرُ الصحيحُ. كما صحّحَهُ الخطيبُ. وقال ابنُ الصلاحِ: إنّهُ الصحيحُ في الفقِهِ وأصولِهِ. وهذا معنى قولِهِ: (ونَسَبَ) أي: ابنُ الصلاحِ الأولَ للنُّظّارِ أنْ صحّحوه، فالنُّظارُ هم أهلُ الفقهِ والأصولِ. وأنْ هنا مصدريةٌ، أي: تصحيحَهُ. وهو بدلٌ من قولِهِ: (الأول) أي: ونَسَبَ تصحيحَ الأولِ للنُّظارِ. وسُئلَ البخاريُّ عن حديثِ: «لا نكاحَ إلا بولي» وهو حديث اختلِفَ فيه على أبي إسحاق السَّبِيعيِّ فرواهُ شُعبةُ والثوريُّ عنه، عن أبي بُردةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ورواه إسرائيلُ بنُ يونُسَ في آخرينَ، عن جدِّهِ أبي إسحاقَ، عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم متصلاً، فحَكَمَ البخاريُّ لمَنْ وصلَهُ، وقال: الزيادةُ من الثقةِ مقبولةٌ. هذا مع أنَّ مَنْ أرسلَهُ شعبةُ وسفيانُ، وهما جبلانِ في الحفظِ والإتقانِ. والقولُ الثاني: أنَّ الحكمَ لمَنْ أرسلَ. وحكاهُ الخطيبُ عن أكثرِ أصحابِ الحديثِ، وهذا معنى قولِهِ: (وقيلَ بل إرسالُه للأكثرِ). وقولُهُ: (للأكثرِ)، خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: وقيلَ الحكمُ لإرسالِهِ، وهذا للأكثرِ، أي: قولُ الأكثرِ. والقولُ الثالثُ: أنَّ الحكمَ للأكثرِ، فإنْ كان مَنْ أرسلَهُ أكثرَ ممَّن وصلَهُ، فالحكمُ للإرسالِ، وإنْ كانَ من وَصَلَهُ أكثرَ، فالحكمُ للوصلِ. والقولُ الرابعُ: أنَّ الحكمَ للأحفظِ، فإنْ كانَ مَنْ أرسلَ أحفظَ، فالحكمُ له، وإن كان مَنْ وصلَ أحفظَ فالحكمُ له، وهذا معنى قولِهِ: وقيلَ: الأكثرُ، وقيلَ: الأحفظُ. وكلاهُما خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: وقيلَ: المعتبرُ الأكثرُ، وقيلَ: الأحفظُ. وينبني على هذا القولِ الرابعِ- وهو أنَّ الحكمَ للأحفظِ- ما إذا أرسلَ الأحفظُ، فهلْ يقدحُ ذلكَ في عدالةِ مَنْ وصَلَهُ، وأهليَّتِهِ، أوْ لاَ؟ فيهِ قولانِ: أصحُّهُما، وبه صَدَّرَ ابنُ الصلاحِ كلامَهُ أنَّهُ: لا يَقدَحُ. قالَ: ومنهم مَنْ قالَ: يَقدَحُ في مسندِهِ، وفي عدالتِهِ، وفي أهليتِهِ. وهذا معنى قولِهِ: (ثُمَّ فَمَا إرْسَالُ عَدْلٍ يَحْفَظُ …) إِلَى آخره. وقولُهُ: (أوْ مُسْنَدِهِ) أي: وما أسندَهُ من الحديثِ غَيْر هَذَا الَّذِي أرْسَلَهُ مَنْ هُوَ أحفظُ؛ لأنَّ هذا بناءٌ على أنَّ الحكمَ للأحفظِ، وقد أرسل، فلا شكَّ في قدحِهِ في هذا المسنَدِ على هذا القولِ. وقولُهُ: (وَرَأوا أنَّ الأصح الحُكْم للرَّفْع). أشارَ بهِ إلى مسألةِ تعارضِ الرفعِ والوقفِ. وهو ما إذا رفعَ بعضُ الثقاتِ حديثاً، ووقفَهُ بعضُ الثقاتِ، فالحكمُ على الأصَحِّ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ، لما زادَهُ الثقةُ من الرفعِ؛ لأنَّهُ مثبتٌ، وغيرُهُ ساكتٌ، ولو كان نافياً فالمثبِتُ مقدّمٌ عليه؛ لأنَّهُ عَلِمَ ما خَفِيَ عليهِ. وقولُهُ: (وَلَو من وَاحِد في ذَا وَذا). أشارَ بهِ إلى ما إذا وقعَ الاختلافُ مِن راوٍ واحدٍ ثقةٍ في المسألتينِ معاً فوصَلَهُ في وقتٍ وأرسَلَهُ في وقتٍ، أو رَفَعهُ في وقتٍ، ووقَفَهُ في وقتٍ، فالحكمُ على الأصَحِّ لوصلِهِ ورْفعِهِ، لا لإرْسالِهِ ووقْفِهِ. هكذا صحّحَهُ ابنُ الصلاحِ. وأما الأصوليون فصححوا أنَّ الاعتبارَ بما وقع منه أكثرُ. فإنْ وقعَ وصلُه، أو رفعُه أكثرَ من إرسالِهِ، أو وقفهِ؛ فالحكمُ للوصلِ، والرفعِ. وإنْ كان الإرسالُ، أو الوقفُ أكثرَ، فالحكمُ له.
153. تَدلِيْسُ الاسْنَادِ كَمَنْ يُسْقِطُ مَنْ *** حَدَّثَهُ، وَيَرْتَقِي بـ (عَنْ) وَ (أَنْ) 154. وَقَالَ: يُوْهِمُ اتِّصَالاً، وَاخْتُلِفْ *** فِي أَهْلِهِ، فَالرَّدُّ مُطْلَقَاً ثُقِفْ 155. وَالأكْثَرُوْنَ قَبِلُوْا مَا صَرَّحَا *** ثِقَاتُهُمْ بِوَصْلِهِ وَصُحِّحَا 156. وَفي الصَّحِيْحِ عِدَّةٌ (كَالاعْمَشِ) *** وَ (كَهُشَيْمٍ) بَعْدَهُ وَفَتِّشِ التدليسُ على ثلاثةِ أقسامٍ، ذكرَ ابنُ الصلاحِ منها قسمينِ فقطْ: القسمُ الأولُ: تدليسُ الإسنادِ: وهو أنْ يُسقطَ اسمَ شيخِهِ الذي سمعَ منه، ويرتَقي إلى شيخِ شيخِهِ، أو مَنْ فوقَهُ، فَيسندُ ذلك إليه بلفظٍ لا يقتضي الاتصالَ، بل بلفظٍ مُوهمٍ، كقولِهِ: عَنْ فلانٍ، أو أنَّ فلاناً، أو قالَ فلانٌ، مُوهِماً بذلك أنّهُ سمعَ ممَّنْ رواه عنه، وإنّما يكونُ تدليساً إذا كانَ المدلِّسُ قد عاصرَ المرويَّ عنه أو لقيَهُ ولم يسمع منه، أو سمعَ منه ولم يسمعْ منه ذلكَ الحديثَ الذي دلَّسَهُ عنه. وقد فُهِمَ هذا الشرطُ مِنْ قولِهِ: (يُوْهِمُ اتصَّالاً). وإنّما يقعُ الإيهامُ مع المعاصرةِ وقد حدَّهُ أبو الحسنِ ابنُ القطانِ في كتابِهِ " بيان الوهم والإيهام ": بأنْ يرويَ عمَّنْ قد سَمِعَ منه ما لم يسمعْ منهُ، من غيرِ أنْ يذكرَ أنّهُ سمعَهُ منه، قال: والفرقُ بينَهُ وبين الإرسالِ: هو أنَّ الإرسالَ روايتُهُ عمَّنْ لم يسمعْ منه، وقد سبقَ ابنَ القطانِ إلى حدِّهِ بذلك الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالقِ البزَّارُ، ذكرَ ذلك في جزءٍ له " في معرفةِ مَنْ يُتركُ حديثُهُ، أو يقبلُ ". أما إذا روى عمَّنْ لم يدركْهُ بلفظٍ موهمٍ فإنَّ ذلك ليس بتدليسٍ على الصحيحِ المشهورِ. وحكى ابن عبد البرِّ في " التمهيد " عن قومٍ: أنَّهُ تدليسٌ، فجعلوا التدليسَ أنْ يُحَدِّثَ الرجلُ عن الرجلِ بما لم يسمعْهُ منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحاً بالسماعِ، وإلاَّ لكان كذباً. قالَ ابنُ عبد البرِّ: وعلى هذا فما سَلِمَ من التدليسِ أحدٌ لا مالكٌ ولا غيرُهُ. فقولُهُ: في البيتِ الثاني: (وقال)، معطوفٌ على قولِهِ: (بِـ: عَنْ وأنْ)، أي: بهذهِ الألفاظِ الثلاثةِ ونحوِها، ومثله أنْ يُسْقِطَ أداةَ الروايةِ، ويسمّي الشيخَ فقط فيقولُ: فلانٌ، وهذا يفعلُهُ أهلُ الحديثِ كثيراً. قال عليُّ بنُ خَشْرَمٍ: كُنَّا عند ابنِ عُيينةَ، فقالَ: الزُّهْريُّ، فقيل له: حدّثَكُمُ الزهريُّ؟ فسكتَ. ثمَّ قالَ: الزهريُّ، فقيل له: سمعتَهُ من الزهريِّ؟ فقال: لا لم أسمعْهُ من الزهريِّ ولا ممَّنْ سمِعَهُ من الزهريِّ، حدّثني عبدُ الرزاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن الزهريِّ. وقد مَثَّلَ ابنُ الصَّلاحِ للقسمِ الأولِ بهذا المثالِ. ثم حكى الخلافَ فيمَنْ عُرفَ بهذا، هل يُردُّ حديثُهُ مطلقاً، أو ما لم يُصرّحْ فيه بالاتصال؟! واعلمْ أنَّ ابنَ عبد البرِّ قد حكى عن أئمةِ الحديثِ أنَّهُم قالوا: يُقبلُ تدليسُ ابنِ عُيينةَ؛ لأنَّهُ إذا وقفَ أحالَ على ابنِ جُريجٍ ومعمرٍ ونظائرِهما. وهذا ما رجّحَهُ ابنُ حبّانَ، وقال: وهذا شيءٌ ليس في الدنيا إلاَّ لسفيانَ بنِ عيينةَ، فإنّهُ كان يدلِّسُ، ولا يدلِّسُ إلا عن ثقةٍ متقنٍ، ولا يكادُ يوجدُ لابنِ عيينةَ خبرٌ دلَّسَ فيهِ، إلاَّ وقدْ بَيَّنَ سماعَهُ عن ثقةٍ مثل ثقتِهِ، ثم مَثَّلَ ذلك بمراسيلِ كبار الصحابةِ، فإنَّهُم لا يرسلونَ إلاّ عن صحابيٍّ. وقد سبقَ ابنَ عبدِ البرِّ إلى ذلك الحافظانِ: أبو بكر البزّارُ، وأبو الفتحِ الأزديُّ. فقالَ البزّارُ في الجزءِ المذكورِ: إنَّ مَنْ كان يدلِّسُ عن الثقاتِ كانَ تدليسُهُ عند أهلِ العلمِ مقبولاً. ثم قال: فمَنْ كانت هذهِ صفتُهُ وَجبَ أنْ يكونَ حديثُهُ مقبولاً وإنْ كان مدلساً. وهكذا رأيتُهُ في كلامِ أبي بكرٍ الصَيْرفيِّ من الشافعية في كتابِ "الدلائلِ" فقالَ: كلُّ مَنْ ظهرَ تدليسُهُ عن غيرِ الثقاتِ لَمْ يُقبلْ خبرُهُ حَتَّى يقولَ: حدّثني، أو سمعتُ. انتهى. وقولُهُ: (واختلفَ في أهْلِه) أي: في أهلِ هَذَا القسمِ مِنَ التدليسِ، وهم المعروفونَ بهِ. فقيلَ: يُرَدُّ حديثُهم مطلقاً، سواءٌ بينوا السماعَ، أو لَمْ يبينوا، وأنَّ التدليسَ نفسَهُ جرحٌ، حكاهُ ابنُ الصلاحِ عن فريقٍ من أهلِ الحديثِ والفقهاءِ، وَهُوَ المرادُ بقولِهِ: (فالردُّ مطلقاً ثُقِفْ) أي: وُجِدَ عن بعضِهم. والصحيحُ كما قالَ ابنُ الصلاحِ، التفصيلُ. فإنْ صَرَّحَ بالاتصالِ كقولِهِ: سمعتُ، وحدّثنا، وأخبرنا، فهو مقبولٌ محتجٌّ به. وإنْ أتى بلفظٍ محتملٍ فحكمُه حكمُ المرسلِ. وإلى هذا ذهبَ الأكثرونَ كما حكيتُهُ عنهمْ. ولمْ يذكرِ ابنُ الصلاحِ ذلكَ عنِ الأكثرينَ. وهذا من الزيادةِ عليه التي لم تُمَيَّزْ بـ: قلتُ. وممَّنْ حكاهُ عن جمهورِ أئمةِ الحديثِ والفقهِ والأصولِ شيخُنا أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ " المراسيل "، وهو قولُ الشافعيِّ، وعليِّ بنِ المدينيِّ، ويحيى بنِ معين، وغيرِهم. وقد وجدتُ في كلامِ بعضِهم: أنَّ المدلّسَ إذا لم يُصَرِّحْ بالتحديثِ، لم يُقبلْ اتّفاقاً. وقد حكاهُ البيهقيُّ في " المدخلِ " عن الشافعيِّ، وسائرِ أهلِ العلمِ بالحديثِ. وحكايةُ الاتفاقِ هنا غلطٌ أو هو محمولٌ على اتفاقِ مَنْ لا يحتجُّ بالمرسلِ. أمّا الذين يحتجُّونَ بالمرسلِ فيحتجونَ بهِ كما اقتضاهُ كلامُ ابنِ الصلاحِ على أنَّ بعضَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ لا يقبلُ عنعنةَ المدلسِ. فقد حكى الخطيبُ في " الكفايةِ ": أنَّ جُمهورَ مَنْ يحتجُّ بالمرسلِ يقبلُ خبرَ المدلِّسِ. وقولُهُ: (وفي الصحيح …) إلى آخرهِ، أي: وفي الصَّحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الصحيحةِ عدّةُ رواةٍ من المدلّسينَ، كالأعمشِ، وهُشيمِ بنِ بَشِيرٍ، وغيرِهما. وقولُهُ: (وفَتِّشْ) أي: وفتشْ، في الصحيحِ تجدْ جماعةً منهم، كقتادةَ والسفيانَيْنِ، وعبدِ الرزاقِ، والوليدِ بنِ مسلمٍ، وغيرِهِمْ. وقالَ النوويُّ: إنَّ ما في الصحيحينِ وغيرِهما من الكتبِ الصحيحةِ عن المدلسينَ بـ: عَنْ، محمولٌ عَلَى ثبوتِ سماعِهِ من جهةٍ أخرى. وَقَالَ الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الكريمِ الحلبيُّ في كتاب " القِدْح المُعَلّى": قالَ أكثرُ العلماءِ: إنَّ الَّتِي في الصحيحينِ مُنَزَّلةٌ بمنزلةِ السماعِ. 157. وَذَمَّهُ (شُعْبَةُ) ذُو الرُّسُوْخِ *** وَدُوْنَهُ التَّدْليْسُ لِلشِّيُوْخِ 158. أنْ يَصِفَ الشَّيْخَ بِمَا لا يُعْرَفُ *** بِهِ، وَذَا بِمقْصِدٍ يَخْتَلِفُ 159. فَشَرُّهُ للضَّعْفِ وَاسْتِصْغَارا *** وَكـ (الخَطِيْبِ) يُوْهِمُ اسْتِكْثَارَا 160. و (الشَّافِعيْ) أثْبَتَهُ بِمَرَّه *** قُلْتُ: وَشَرُّهَا أخُو التَّسْويهْ أي: وذمّهُ شعبةُ فبالغَ في ذمِّهِ، وإلاّ فَقَدْ ذمّهُ أكثرُ العلماءِ، وَهُوَ مكروهٌ جدّاً، فروَى الشافعيُّ عن شعبةَ قالَ: التدليسُ أخو الكذبِ، وَقَالَ: لأنْ أزني أحبُّ إليَّ مِنْ أن أدلسَ. قَالَ ابنُ الصلاحِ: «وهذا من شعبةَ إفراطٌ محمولٌ عَلَى المبالغةِ في الزجرِ عَنْهُ والتنفيرِ». وقوله: (دُوْنَهُ التدليسُ للشيوخِ) أي: ودونَ القسمِ الأولِ. وهذا هو القسمُ الثاني من أقسامِ التدليسِ. قالَ ابنُ الصلاحِ: أمرُه أخفُّ منه، و (أنْ): في أولِ البيتِ الثاني مصدريةٌ. والجملةُ في موضع رفعٍ على أنّهُ بيانٌ للتدليسِ المذكورِ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديره: وهو أنْ يصفَ المدلّسُ شيخَهُ الذي سمعَ ذلك الحديث منه بوصفٍ لا يُعْرَفُ به من اسمٍ، أو كنيةٍ، أو نسبةٍ إلى قبيلةٍ، أو بلدٍ، أو صنعةٍ أو نحوِ ذلك، كي يُوْعِّرِ الطريقَ إلى معرفةِ السامعِ له، كقول أبي بكرِ بن مجاهدٍ أحدِ أئمةِ القُرَّاْءِ: حدّثنا عبدُ اللهِ بنُ أبي عبدِ اللهِ، يريدُ به: عبدَ اللهِ بنَ أبي داود السجستانيَّ، ونحوَ ذلك. قال ابنُ الصلاحِ: وفيه تضييعٌ للمَرْوِيِّ عنه. قلتُ: وللمَرْوِيِّ أيضاً بأنْ لا يتنبهَ له فيصيرُ بعضُ رواتِهِ مجهولاً. ويختلفُ الحالُ في كراهةِ هذا القسمِ باختلافِ المقْصَدِالحاملِ على ذلكَ.فشرُّ ذلكَ: إذا كانَ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنهُ ضعيفاً، فيدلّسُهُ حتى لا تظهرَ روايتُهُ عن الضعفاءِ.وقد يكونُ الحاملُ على ذلكَ كونَ المَرْوِيِّ عنه صغيراً في السِّنِّ، أو تأخّرتْ وفاتُهُ، وشاركَهُ فيه مَنْ هو دونَهُ. وقد يكونُ الحاملُ على ذلك إيهامَ كثرةِ الشيوخِ بأنْ يرويَ عن الشيخِ الواحدِ في مواضعَ، يُعَرِّفُهُ في موضِعٍ بصفةٍ، وفي موضعٍ آخرَ بصفةٍ أخرى يُوهِمُ أنّهُ غيرُهُ. وممَّنْ يفعلُ ذلك كثيراً الخطيبُ، فقد كانَ لهِجَاً به في تصانيفهِ. ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ حكمَ مَنْ عُرِفَ بهذا القسمِ الثاني من التدليسِ. وقد جزمَ ابنُ الصَّبَّاغُ في " العُدَّةِ " بأنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ؛ لكونِ مَنْ روى عنهُ غيرَ ثقةٍ عندَ الناسِ، وإنّما أرادَ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ ليقبلوا خبرَهُ، يجبُ أنْ لا يُقبلَ خَبرُهُ، وإنْ كانَ هو يعتقدُ منهُ الثقةَ فقدْ غَلَطَ في ذلكَ؛ لجوازِ أنْ يَعْرِفَ غيرُهُ مِنْ جِرْحهِ ما لا يَعرفُهُ هو، فإنْ كانَ لصِغَرِ سنِّهِ، فيكونُ ذلكَ روايةً عن مجهولٍ، لا يجبُ قبولُ خَبَرِهِ حتَّى يعرفَ مَنْ رَوَى عنهُ. وقوله: (واستصغاراً)، منصوبٌ بكانَ المحذوفةِ، أي: ويكونُ استصغاراً وإيهاماً للكثرةِ، وقوله: (وكالخطيبِ) أي: وكفعلِ الخطيبِ. وقولُه: (والشافعيُّ أثبتَهُ) أي: أصلُ التدليسِ لا هذا القسمُ الثاني منه. قالَ ابنُ الصلاحِ: والحكمُ بأنَّهُ لا يُقبلُ من المدلِّسِ حتَّى يُبَيِّنَ، قد أجراهُ الشافعيُّ رضي الله عنه، فيمَنْ عرفناهُ دلَّسَ مرّةً. وممَّنْ حكاهُ عن الشافعيِّ البيهقيُّ في " المدخلِ ". وقولُهُ: (قلتُ: وشرُّها أخو التسوية). هذا هو القسمُ الثالثُ من أقسامِ التدليسِ الذي لم يذكرْهُ ابنُ الصلاحِ- وهو تدليسُ التسويةِ- وصورتُه أنْ يرويَ حديثاً عن شيخٍ ثقةٍ، وذلكَ الثقةُ يرويه عنْ ضعيفٍ عن ثقةٍ، فيأتي المدلِّسُ الذي سمعَ الحديثَ من الثقةِ الأولِ، فيُسقطُ الذي في السندِ، ويجعلُ الحديثَ عن شيخِهِ الثقةِ عن الثقةِ الثاني، بلفظٍ محتملٍ، فيستوي الإسنادُ، كلُّهُ ثقاتٌ. وهذا شرُّ أقسامِ التدليسِ؛ لأنَّ الثقةَ الأولَ قدْ لا يكونُ معروفاً بالتدليسِ، ويجدُهُ الواقفُ على السندِ كذلكَ بعدَ التسويةِ قد رواهُ عن ثقةٍ آخرَ فيحْكَمُ له بالصحةِ، وفي هذا غرورٌ شديدٌ. وممَّنْ نُقِلَ عنه أنَّهُ كان يفعلُ ذلكَ: بقيّةُ بنُ الوليدِ، والوليدُ بنُ مسلمٍ. أما بقيةُ، فقال ابنُ أبي حاتمٍ في كتاب " العلل ": سمعتُ أبي، وذكرَ الحديثَ الذي رواهُ إسحاقُ بنُ راهويهِ، عنْ بقيةَ، حدّثني أبو وَهْبٍ الأسديُّ، عن نافعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ حديث: «لا تحمدوا إسلامَ المرءِ حتى تعرفوا عقدةَ رأيِهِ». فقال أبي: هذا الحديثُ له أمرٌ قَلَّ مَنْ يفهمُهُ، رَوَى هذا الحديثَ عبيدُ الله بنُ عمرٍو، عن إسحاقَ بنِ أبي فروةَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وعبيدُ الله بنُ عمرٍو كنيته أبو وَهْبٍ وهو أسديٌ. فكناهُ بقيةُ ونسبَهُ إلى بني أسدٍ لكي لا يُفطَنَ له. حتى إذا تُرِكَ إسحاقُ بنُ أبي فروةَ من الوسط لا يُهتدى له.- قال-: وكان بقيّةُ مِن أفعلِ الناسِ لهذا. وأمَّا الوليدُ بنُ مسلمٍ فقال أبو مُسْهِرٍ: كانَ الوليدُ بنُ مسلمٍ يحدّثُ بأحاديثِ الأوزاعيِّ عن الكذابينَ، ثم يدلّسُها عنهم. وقال صالحٌ جَزَرَةُ: سمعتُ الهيثمَ بنَ خارجةَ يقولُ: قلتُ للوليدِ بنِ مسلمٍ: قد أفسدتَ حديثَ الأوزاعيِّ. قال: كيف؟ قلتُ: تَروي عن الأوزاعيِّ، عن نافعٍ، وعن الأوزاعيِّ، عن الزهريِّ، وعن الأوزاعيِّ، عن يَحْيَى بنِ سعيدٍوغيرُكَ يُدْخلُ بَيْنَ الأوزاعيِّ وبينَ نافعٍ، عبدَ اللهِ بنَ عامرٍ الأسلميَّ وبينَهُ وبينَ الزهريِّ إبراهيمَ بنَ مُرَّةَ وقُرَّةَ، قَالَ: أُنَبِّلُ الأوزاعيَّ أنْ يروِيَ عن مثلِ هؤلاءِ. قلتُ: فإذا رَوَى عن هؤلاءِ- وهم ضُعفاءُ- أحاديثَ مناكيرَ فاسقطتَهُمْ أنتَ وصَّيرتَها من روايةِ الأوزاعيِّ عن الثِّقاتِ؛ ضُعِّفَ الأوزاعيُّ، فلم يلتفِتْ إلى قولي. وذَكَرَ الدارقطنيُّ عن الوليدِ أيضاً هذا النوعَ مِنَ التدليسِ. قال الخطيبُ: وكانَ الأعمشُ، والثوريُّ، وبقيّةُ، يفعلونَ مثلَ هذَا. وقد سَمَّاهُ ابنُ القطّانِ وغيرُ واحدٍ تدليسَ التسويةِ. قال العلائيُّ في " المراسيلِ ": «وبالجملةِ فهذا النوعُ أفحشُ أنواعِ التدليسِ مطلقاً وشرُّها».
|